كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ (187)}.
فقال رجل للنبىّ صلى اللّه عليه وسلم: أهو الخيط الأبيض والخيط الأسود؟
فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم: «إنك لعريض القفا هو الليل من النهار».
وقوله: {وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ} وفى قراءة أبىّ: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ولا تدلوا بها إلى الحكّام} فهذا مثل قوله: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ} معناه: ولا تكتموا. وإن شئت جعلته إذا ألقيت منه: {لا} نصبا على الصرف كما تقول: لا تسرق وتصدّق. معناه: لا تجمع بين هذين كذا وكذا وقال الشاعر:
لا تنه عن خلق وتأتى مثله ** عار عليك إذا فعلت عظيم

والجزم في هذا البيت جائز أي لا تفعلن واحدا من هذين.
وقوله: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ (189)}.
سئل النبي صلى اللّه عليه وسلم عن نقصان القمر وزيادته ما هو؟ فأنزل اللّه تبارك وتعالى ذلك لمواقيت حجكم وعمرتكم وحلّ ديونكم وانقضاء عدد نسائكم.
وقوله: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها (189)}.
وذلك أن أهل الجاهلية- إلا قريشا ومن ولدته قريش من العرب- كان الرجل منهم إذا أحرم في غير أشهر الحج في بيت مدر أو شعر أو خباء نقب في بيته نقبا من مؤخّره فخرج منه ودخل ولم يخرج من الباب، وإن كان من أهل الأخبية والفساطيط خرج من مؤخّره ودخل منه. فبينما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو محرم ورجل محرم يراه، دخل من باب حائط فاتّبعه ذلك الرجل، فقال له: تنحّ عنى. قال: ولم؟ قال دخلت من الباب وأنت محرم. قال: إنى قد رضيت بسنّتك وهديك. قال له النبي صلى اللّه عليه وسلم: «إنى أحمس» قال: فإذا كنت أحمس فإنى أحمس. فوفّق اللّه الرجل، فأنزل اللّه تبارك وتعالى: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
وقوله: {وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ (191)}.
فهذا وجه قد قرأت به العامّة. وقرأ أصحاب عبد اللّه: {ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقتلوكم فيه فإن قتلوكم فقتلوهم} والمعنى هاهنا: فإن بدءوكم بالقتل فاقتلوهم. والعرب تقول: قد قتل بنو فلان إذا قتل منهم الواحد.
فعلى هذا قراءة أصحاب عبد اللّه. وكلّ حسن.
وقوله: {فَإِنِ انْتَهَوْا} فلم يبدءوكم فَلا عُدْوانَ على الذين انتهوا، إنما العدوان على من ظلم: على من بدأكم ولم ينته.
فإن قال قائل: أرأيت قوله: {فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} أعدوان هو وقد أباحه اللّه لهم؟ قلنا: ليس بعدوان في المعنى، إنما هو لفظ على مثل ما سبق قبله.
ألا ترى أنه قال: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ فالعدوان من المشركين في اللفظ ظلم في المعنى والعدوان الذي أباحه اللّه وأمر به المسلمين إنما هو قصاص. فلا يكون القصاص ظلما، وإن كان لفظه واحدا.
ومثله قول اللّه تبارك وتعالى: {وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَة مِثْلُها} وليست من اللّه على مثل معناها من المسيء لأنها جزاء.
وقوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ (196)}.
وفي قراءة عبد اللّه: {وأتمّوا الحجّ والعمرة إلى البيت للّه} فلو قرأ قارئ: {وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} فرفع العمرة لأن المعتمر إذا أتى البيت فطاف به وبين الصفا والمروة حلّ من عمرته. والحج يأتى فيه عرفات وجميع المناسك وذلك قوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} يقول: أتموا العمرة إلى البيت في الحج إلى أقصى مناسكه.
{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} العرب تقول للذى يمنعه من الوصول إلى إتمام حجّه أو عمرته خوف أو مرض، وكل ما لم يكن مقهورا كالحبس والسّجن يقال للمريض: قد أحصر، وفى الحبس والقهر: قد حصر. فهذا فرق بينهما. ولو نويت في قهر السلطان أنها علّة مانعة ولم تذهب إلى فعل الفاعل جاز لك أن تقول: قد أحصر الرجل.
ولو قلت في المرض وشبهه: إن المرض قد حصره أو الخوف، جاز أن تقول:
حصرتم. وقوله: {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا} يقال إنه المحصر عن النساء لأنها علّة وليس بمحبوس. فعلى هذا فابن.
وقوله: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ (196)}.
{ما} في موضع رفع لأن أكثر ما جاء من أشباهه في القرآن مرفوع.
ولو نصبت على قولك: أهدوا: {فَمَا اسْتَيْسَرَ}.
وتفسير الهدى في هذا الموضع بدنة أو بقرة أو شاة.
{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} الهدى صام ثلاثة أيام يكون آخرها يوم عرفة، واليومان في العشر، فأمّا السبعة فيصومها إذا رجع في طريقه، وإن شاء إذا وصل إلى أهله والسبعة فيها الخفض على الإتباع للثلاثة. وإن نصبتها فجائز على فعل مجدّد كما تقول في الكلام: لابد من لقاء أخيك وزيد وزيدا.
وقوله: {ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} يقول: ذلك لمن كان من الغرباء من غير أهل مكّة، فأمّا أهل مكة فليس ذلك عليهم. و: {ذلِكَ} في موضع رفع. وعلى تصلح في موضع اللام أي ذلك على الغرباء.
وقوله: {الْحَجُّ أَشْهُر مَعْلُومات} معناه: وقت الحج هذه الأشهر. فهى وإن كانت في تصلح فيها فلا يقال إلّا بالرفع، كذلك كلام العرب، يقولون: البرد شهران، والحرّ شهران، لا ينصبون لأنه مقدار الحج. ومثله قوله: {وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْر وَرَواحُها شَهْر} ولو كانت الأشهر أو الشهر معروفة على هذا المعنى لصلح فيه النصب. ووجه الكلام الرفع لأن الاسم إذا كان في معنى صفة أو محلّ قوى إذا أسند إلى شيء ألا ترى أن العرب يقولون: هو رجل دونك وهو رجل دون، فيرفعون إذا أفردوا، وينصبون إذا أضافوا. ومن كلامهم المسلمون جانب، والكفّار جانب، فإذا قالوا: المسلمون جانب صاحبهم نصبوا. وذلك أن الصاحب يدلّ على محلّ كما تقول: نحو صاحبهم، وقرب صاحبهم. فإذا سقط الصاحب لم تجده محلّا تقيده قرب شيء أو بعده.
والأشهر المعلومات شوّال وذو القعدة وعشر من ذى الحجة. والأشهر الحرم المحرّم ورجب وذو القعدة وذو الحجة. وإنما جاز أن يقال له أشهر وإنما هما شهران وعشر من ثالث لأن العرب إذا كان الوقت لشئ يكون فيه الحج وشبهه جعلوه في التسمية للثلاثة والاثنين، كما قال اللّه تبارك وتعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} وإنما يتعجّل في يوم ونصف، وكذلك هو في اليوم الثالث من أيام التشريق وليس منها شيء تامّ، وكذلك تقول العرب: له اليوم يومان منذ لم أره، وإنما هو يوم وبعض آخر، وهذا ليس بجائز في غير المواقيت لأن العرب قد تفعل الفعل في أقلّ من الساعة، ثم يوقعونه على اليوم وعلى العام والليالى والأيام، فيقال: زرته العام، وأتيتك اليوم، وقتل فلان ليالى الحجّاج أمير، لأنه لا يراد أوّل الوقت وآخره، فلم يذهب به على معنى العدد كله، وإنما يراد به إذ ذاك الحين.
وأما قوله: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ} يقال: إن الرفث الجماع، والفسوق السباب، والجدال المماراة فِي الْحَجِّ فالقراء على نصب ذلك كله بالتبرئة إلا مجاهدا فإنه رفع الرفث والفسوق ونصب الجدال. وكلّ ذلك جائز. فمن نصب أتبع آخر الكلام أوّله، ومن رفع بعضا ونصب بعضا فلان التبرئة فيها وجهان: الرفع بالنون، والنصب بحذف النون. ولو نصب الفسوق والجدال بالنون لجاز ذلك في غير القرآن لأن العرب إذا بدأت بالتبرئة فنصبوها لم تنصب بنون، فإذا عطفوا عليها ب: {لا} كان فيها وجهان، إن شئت جعلت: {لا} معلّقة يجوز حذفها فنصبت على هذه النية بالنون لأن: {لا} في معنى صلة، وإن نويت بها الابتداء كانت كصاحبتها، ولم تكن معلّقة فتنصب بلا نون قال في ذلك الشاعر:
رأت إبلى برمل جدود أن ** لا مقيل لها ولا شربا نقوعا

فنّون في الشرب، ونوى بلا الحذف كما قال الآخر:
فلا أب وابنا مثل مروان وابنه ** إذا هو بالمجد ارتدى وتأزّرا

وهو في مذهبه بمنزلة المدعوّ تقول: يا عمرو والصّلت أقبلا. فتجعل الصلت تابعا لعمرو وفيه الألف واللام لأنك نويت به أن يتبعه بلا نيّة يا في الألف واللام. فإن نويتها قلت: يا زيد ويا أيها الصّلت أقبلا. فإن حذفت: {يا أيها} وأنت تريدها نصبت كقول اللّه عز وجل: {يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} نصب الطير على جهتين: على نيّة النداء المجدّد له إذ لم يستقم دعاؤه بما دعيت به الجبال، وإن شئت أوقعت عليه فعلا: وسخرنا له: {الطَّيْرَ} فتكون النية على سخرنا. فهو في ذلك متبع كقول الشاعر:
ورأيت زوجك في الوغى ** متقلّدا سيفا ورمحا

وإن شئت رفعت بعض التبرئة ونصبت بعضا، وليس من قراءة القراء ولكنه يأتى في الأشعار قال أميّة:
فلا لغو ولا تأثيم فيها ** وما فاهوا به لهم مقيم

وقال الآخر:
ذاكم وجدّكم الصّغار بعينه ** لا أمّ لى إن كان ذاك ولا أب

وقبله:
وإذا تكون شديدة أدعى لها ** وإذا يحاس الحيس يدعى جندب

وقوله: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا (200)}.
كانت العرب إذا حجّوا في جاهليّتهم وقفوا بين المسجد بمنى وبين الجبل، فذكر أحدهم أباه بأحسن أفاعيله: اللّهمّ كان يصل الرحم، ويقرى الضيف. فأنزل اللّه تبارك وتعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} فأنا الذي فعلت ذلك بكم وبهم.
وقوله: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا (200)}.
كان أهل الجاهلية يسألون المال والإبل والغنم فأنزل اللّه: {منهم من يسئل الدنيا فليس له في الآخرة خلاق} يعنى نصيبا.
وقوله: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ (203)}.
هى العشر والمعلومات: أيام التشريق كلها، يوم النحر وثلاثة أيام التشريق.
فمن المفسرين من يجعل المعدودات أيام التشريق أيضا، وأما المعلومات فإنهم يجعلونها يوم النحر ويومين من أيام التشريق لأن الذبح إنما يكون في هذه الثلاثة الأيام، ومنهم من يجعل الذبح في آخر أيام التشريق فيقع عليها المعدودات والمعلومات فلا تدخل فيها العشر.
وقوله: {لِمَنِ اتَّقى (203)}.
يقول: قتل الصيد في الحرم.
وقوله: {وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ (204)}.
كان ذلك رجلا يعجب النبي صلى اللّه عليه وسلم حديثه، ويعلمه أنه معه ويحلف على ذلك فيقول: اللّه يعلم. فذلك قوله: {وَيُشْهِدُ اللَّهَ} أي ويستشهد اللّه. وقد تقرأ: {وَيُشْهِدُ اللَّهَ} رفع: {عَلى ما فِي قَلْبِهِ}.
وقوله: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (204)}.
يقال للرجل: هو ألدّ من قوم لدّ، والمرأة لدّاء ونسوة لدّ، وقال الشاعر:
اللدّ أقران الرجال اللدّ ** ثم أردّي بهم من يردى

ويقال: ما كنت ألدّ فقد لددت، وأنت تلدّ. فإذا غلبت الرجل في الخصومة قلت: لددته فأنا ألدّه لدّا.
وقول اللّه تبارك وتعالى: {وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} نصبت، ومنهم من يرفع: {وَيُهْلِكَ} رفع لا يردّه على: {لِيُفْسِدَ} ولكنه يجعله مردودا على قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ}-: {وَيُهْلِكَ} والوجه الأوّل أحسن.
وقوله: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (205)}.
من العرب من يقول: فسد الشيء فسودا، مثل قولهم: ذهب ذهوبا وذهابا، وكسد كسودا وكسادا.
وقوله: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ (208)}.
أي لا تتبعوا آثاره فإنها معصية.
وقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ (210)}.
رفع مردود على اللّه تبارك وتعالى، وقد خفضها بعض أهل المدينة. يريد: {فى ظلل من الغمام وفى الملائكة}. والرفع أجود لأنها في قراءة عبد اللّه: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم اللّه والملائكة في ظلل من الغمام}.
وقوله: {سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ (211)}.
لا تهمز في شيء من القرآن لأنها لو همزت كانت: {اسأل} بألف. وإنما ترك همزها في الأمر خاصّة لأنها كثيرة الدّور في الكلام فلذلك ترك همزه كما قالوا: كل، وخذ، فلم يهمزوا في الأمر، وهمزوه في النهى وما سواه. وقد تهمزه العرب. فأمّا في القرآن فقد جاء بترك الهمز. وكان حمزة الزّيات يهمز الأمر إذا كانت فيه الفاء أو الواو مثل قوله: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها} ومثل قوله: {فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ} ولست أشتهى ذلك لأنها لو كانت مهموزة لكتبت فيها الألف كما كتبوها في قوله: {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا} {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا} بالألف.
وقوله: {كَمْ آتَيْناهُمْ (211)}.
معناه: جئناهم به من آية. والعرب تقول: أتيتك بآية، فإذا ألقوا الباء قالوا: آتيتك آية كما جاء في الكهف: {آتِنا غَداءَنا} والمعنى: ايتنا بغدائنا.
وقوله: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا (212)}.
ولم يقل زينت وذلك جائز، وإنّما ذكّر الفعل والاسم مؤنث لأنه مشتقّ من فعل في مذهب مصدر. فمن أنّث أخرج الكلام على اللفظ، ومن ذكّر ذهب إلى تذكير المصدر. ومثله: {فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَة مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى} و: {قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ} {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} على ما فسّرت لك.
فأمّا في الأسماء الموضوعة فلا تكاد العرب تذكّر فعل مؤنّث إلا في الشعر لضرورته.
وقد يكون الاسم غير مخلوق من فعل، ويكون فيه معنى تأنيث وهو مذكّر فيجوز فيه تأنيث الفعل وتذكيره على اللفظ مرّة وعلى المعنى مرّة من ذلك قوله عزّ وجلّ: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} ولم يقل كذبت ولو قيلت لكان صوابا كما قال: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ} و: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ} ذهب إلى تأنيث الأمّة، ومثله من الكلام في الشعر كثير منه قول الشاعر:
فإن كلابا هذه عشر أبطن ** وأنت برئ من قبائلها العشر

وكان ينبغى أن يقول: عشرة أبطن لأن البطن ذكر، ولكنه في هذا الموضع في معنى قبيلة، فأنّث لتأنيث القبيلة في المعنى. وكذلك قول الآخر:
وقائع في مضر تسعة ** وفي وائل كانت العاشرة

فقال: تسعة، وكان ينبغى له أن يقول: تسع لأن الوقعة أنثى، ولكنه ذهب إلى الأيام لأن العرب تقول في معنى الوقائع: الأيام فيقال هو عالم بأيّام العرب، يريد وقائعها. فأمّا قول اللّه تبارك وتعالى: {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} فإنه أريد به- واللّه أعلم-: جمع الضياءان. وليس قولهم: إنما ذكّر فعل الشمس لأن الوقوف لا يحسن في الشمس حتى يكون معها القمر بشيء، ولو كان هذا على ما قيل لقالوا: الشمس جمع والقمر. ومثل هذا غير جائز، وإن شئت ذكّرته؛ لأن الشمس اسم مؤنث ليس فيها هاء تدلّ على التأنيث، والعرب ربما ذكّرت فعل المؤنث إذا سقطت منه علامات التأنيث. قال الفرّاء: أنشدنى بعضهم:
فهى أحوى من الربعىّ خاذلة ** والعين بالإثمد الحارىّ مكحول

ولم يقل: مكحولة والعين أنثى للعلة التي أنبأتك بها. قال: وأنشدنى بعضهم:
فلا مزنة ودقت ودقها ** ولا أرض أبقل إبقالها

قال: وأنشدنى يونس- يعنى النحوىّ البصرىّ- عن العرب قول الأعشى:
إلى رجل منهم أسيف كأنما ** يضمّ إلى كشحيه كفّا مخضبا

وأمّا قوله: {السَّماءُ مُنْفَطِر بِهِ} فإن شئت جعلت السماء مؤنثة بمنزلة العين فلمّا لم يكن فيها هاء مما يدلّ على التأنيث ذكّر فعلها كما فعل بالعين والأرض في البيتين.
ومن العرب من يذكّر السماء لأنه جمع كأن واحدته سماوة أو سماءة. قال:
وأنشدنى بعضهم:
فلو رفع السماء إليه قوما ** لحقنا بالسماء مع السحاب

فإن قال قائل: أرأيت الفعل إذا جاء بعد المصادر المؤنثة أيجوز تذكيره بعد الأسماء كما جاز قبلها؟ قلت: ذلك قبيح وهو جائز. وإنما قبح لأن الفعل إذا أتى بعد الاسم كان فيه مكنىّ من الاسم فاستقبحوا أن يضمروا مذكّرا قبله مؤنث، والذين استجازوا ذلك قالوا: يذهب به إلى المعنى، وهو في التقديم والتأخير سواء قال الشاعر:
فإن تعهدى لامرئ لمّة ** فإن الحوادث أزرى بها

ولم يقل: أزرين بها ولا أزرت بها. والحوادث جمع ولكنه ذهب بها إلى معنى الحدثان. وكذلك قال الآخر:
هنيئا لسعد ما اقتضى بعد وقعتى ** بناقة سعد والعشية بارد

كأن العشية في معنى العشىّ ألا ترى قول اللّه: {أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} وقال الآخر:
إن السماحة والشجاعة ضمّنا ** قبرا بمرو على الطريق الواضح

ولم يقل: ضمنتا، والسماحة والشجاعة مؤنثتان للهاء التي فيهما. قال: فهل يجوز أن تذهب بالحدثان إلى الحوادث فتؤنّث فعله قبله فتقول أهلكتنا الحدثان؟ قلت نعم أنشدنى الكسائي:
ألا هلك الشهاب المستنير ** ومدرهنا الكمىّ إذا نغير

وحمّال المئين إذا ألمّت بنا ** الحدثان والأنف النصور

فهذا كاف.
مما يحتاج إليه من هذا النوع.
وأما قوله: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ} ولم يقل بطونها والأنعام هي مؤنثة لأنه ذهب به إلى النعم والنعم ذكر. وإنما جاز أن تذهب به إلى واحدها لأن الواحد يأتى في المعنى على معنى الجمع كما قال الشاعر:
إذا رأيت أنجما من الأسد ** جبهته أو الخرات والكتد

بال سهيل في الفضيخ ففسد ** وطاب ألبان اللقاح فبرد

ألا ترى أن اللبن جمع يكفى من الألبان. وقد كان الكسائىّ يذهب بتذكير الأنعام إلى مثل قول الشاعر:
ولا تذهبن عيناك في كل شرمح ** طوال فإن الأقصرين أمازره

ونقل عن الفراء أن المزير الظريف وأنشد البيت كما في اللسان.
ولم يقل: أمازرهم، فذكّر وهو يريد أمازر ما ذكرنا. ولو كان كذلك لجاز أن تقول هو أحسنكم وأجمله، ولكنه ذهب إلى أن هذا الجنس يظهر مع نكرة غير مؤقّتة يضمر فيها مثل معنى النكرة فلذلك قالت العرب: هو أحسن الرجلين وأجمله لأن ضمير الواحد يصلح في معنى الكلام أن تقول هو أحسن رجل في الاثنين، وكذلك قولك هي أحسن النساء وأجمله. من قال وأجمله قال: أجمل شيء في النساء، ومن قال: وأجملهن أخرجه على اللفظ واحتجّ بقول الشاعر:
مثل الفراخ نتقت حواصله

ولم يقل حواصلها. وإنما ذكّر لأن الفراخ جمع لم يبن على واحده، فجاز أن يذهب بالجمع إلى الواحد. قال الفرّاء: أنشدنى المفضّل:
ألا إن جيرانى العشية رائح ** دعتهم دواع من هوى ومنازح

فقال: رائح ولم يقل رائحون لأن الجيران قد خرج مخرج الواحد من الجمع إذ لم يبن جمعه على واحده.
فلو قلت: الصالحون فإن ذلك لم يجز لأن الجمع منه قد بنى على صورة واحده. وكذلك الصالحات نقول، ذاك غير جائز لأن صورة الواحدة في الجمع قد ذهب عنه توهّم الواحدة. ألا ترى أن العرب تقول: عندى عشرون صالحون فيرفعون ويقولون عندى عشرون جيادا فينصبون الجياد لأنها لم تبن على واحدها، فذهب بها إلى الواحد ولم يفعل ذلك بالصالحين قال عنترة:
فيها اثنتان وأربعون حلوبة ** سودا كخافية الغراب الأسحم

فقال: سودا ولم يقل: سود وهى من نعت الاثنتين والأربعين للعلة التي أخبرتك بها. وقد قرأ بعض القرّاء: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا} ويقال إنه مجاهد فقط.
وقوله: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ (213)}.
ففيها معنيان:
أحدهما:
أن تجعل اختلافهم كفر بعضهم بكتاب بعض: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} للإيمان بما أنزل كلّه وهو حقّ.
والوجه الآخر:
أن تذهب باختلافهم إلى التبديل كما بدّلت التوراة. ثم قال: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} به للحق مما اختلفوا فيه. وجاز أن تكون اللام في الاختلاف ومن في الحق كما قال اللّه تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ} والمعنى- واللّه أعلم- كمثل المنعوق به لأنه وصفهم فقال تبارك وتعالى: {صُمّ بُكْم عُمْي} كمثل البهائم، وقال الشاعر:
كانت فريضة ما تقول كما ** كان الزناء فريضة الرجم

وإنما الرجم فريضة الزناء، وقال:
إن سراجا لكريم مفخره ** تحلى به العين إذا ما تجهره

والعين لا تحلى إنما يحلى بها سراج، لأنك تقول: حليت بعيني، ولا تقول حليت عينى بك إلّا في الشعر.
وقوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ (214)}.
استفهم بأم في ابتداء ليس قبله ألف فيكون أم ردّا عليه، فهذا مما أعلمتك أنه يجوز إذا كان قبله كلام يتّصل به. ولو كان ابتداء ليس قبله كلام كقولك للرجل: أعندك خير؟ لم يجز هاهنا أن تقول: أم عندك خير.
ولو قلت: أنت رجل لا تنصف أم لك سلطان تدلّ به، لجاز ذلك إذ تقدّمه كلام فاتّصل به.
وقوله: {أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} معناه: أظننتم أن تدخلوا الجنة ولم يصبكم مثل ما أصاب الذين قبلكم فتختبروا. ومثله:
{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} وكذلك في التوبة: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ}.
وقوله: {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ (214)}.
قرأها القرّاء بالنصب إلا مجاهدا وبعض أهل المدينة فإنهما رفعاها.
ولها وجهان في العربية: نصب، ورفع. فأمّا النصب فلأن الفعل الذي قبلها مما يتطاول كالترداد. فإذا كان الفعل على ذلك المعنى نصب بعده بحتّى وهو في المعنى ماض. فإذا كان الفعل الذي قبل حتى لا يتطاول وهو ماض رفع الفعل بعد حتّى إذا كان ماضيا.
فأمّا الفعل الذي يتطاول وهو ماض فقولك: جعل فلان يديم النظر حتى يعرفك ألا ترى أن إدامة النظر تطول. فإذا طال ما قبل حتّى ذهب بما بعدها إلى النصب إن كان ماضيا بتطاوله. قال: وأنشدنى بعض العرب وهو المفضّل:
مطوت بهم حتّى تكلّ غزاتهم ** وحتّى الجياد ما يقدن بأرسان

فنصب تكلّ والفعل الذي أدّاه قبل حتّى ماض لأنّ المطو بالإبل يتطاول حتى تكلّ عنه. ويدلّك على أنه ماض أنك تقول: مطوت بهم حتى كلّت غزاتهم.
فبحسن فعل مكان يفعل تعرف الماضي من المستقبل. ولا يحسن مكان المستقبل فعل ألا ترى أنك لا تقول: أضرب زيدا حتى أقرّ، لأنك تريد: حتى يكون ذلك منه.
وإنما رفع مجاهد لأنّ فعل يحسن في مثله من الكلام كقولك: زلزلوا حتى قال الرسول. وقد كان الكسائىّ قرأ بالرفع دهرا ثم رجع إلى النصب. وهى في قراءة عبد اللّه: {وزلزلوا ثم زلزلوا ويقول الرسول} وهو دليل على معنى النصب. ولحتى ثلاثة معان في يفعل، وثلاثة معان في الأسماء.
فإذا رأيت قبلها فعل ماضيا وبعدها يفعل في معنى مضىّ وليس ما قبل حتّى يفعل يطول فارفع يفعل بعدها كقولك جئت حتى أكون معك قريبا، وكان أكثر النحويين ينصبون الفعل بعد حتّى وإن كان ماضيا إذا كان لغير الأوّل، فيقولون: سرت حتى يدخلها زيد فزعم الكسائىّ أنه سمع العرب تقول: سرنا حتى تطلع لنا الشمس بزبالة، فرفع والفعل للشمس، وسمع: إنا لجلوس فما نشعر حتى يسقط حجر بيننا، رفعا. قال: وأنشدنى الكسائي:
وقد خضن الهجير وعمن ** حتى يفرّج ذاك عنهنّ المساء

وأنشد قول الآخر:
وننكر يوم الروع ألوان خيلنا ** من الطعن حتى نحسب الجون أشقرا

فنصب هاهنا لأنّ الإنكار يتطاول. وهو الوجه الثاني من باب حتى.
وذلك أن يكون ما قبل حتى وما بعدها ماضيين، وهما ممّا يتطاول، فيكون يفعل فيه وهو ماض في المعنى أحسن من فعل، فنصب وهو ماض لحسن يفعل فيه. قال الكسائىّ: سمعت العرب تقول: إنّ البعير ليهرم حتى يجعل إذا شرب الماء مجّه. وهو أمر قد مضى، ويجعل فيه أحسن من جعل. وإنّما حسنت لأنها صفة تكون في الواحد على معنى الجميع، معناه: إنّ هذا ليكون كثيرا في الإبل.
ومثله: إنّ الرجل ليتعظّم حتى يمرّ فلا يسلم على الناس. فتنصب يمرّ لحسن يفعل فيه وهو ماض وأنشدنى أبو ثروان:
أحبّ لحبّها السودان حتى ** أحبّ لحبّها سود الكلاب

ولو رفع لمضيه في المعنى لكان صوابا. وقد أنشدنيه بعض بنى أسد رفعا.
فإذا أدخلت فيه لا اعتدل فيه الرفع والنصب كقولك: إنّ الرجل ليصادقك حتى لا يكتمك سرّا، ترفع لدخول لا إذا كان المعنى ماضيا. والنصب مع دخول لا جائز. ومثله ما يرفع وينصب إذ دخلت لا في قول اللّه تبارك وتعالى: {وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَة} رفعا ونصبا. ومثله: {أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا} ينصبان ويرفعان، وإذا ألقيت منه لا لم يقولوه إلّا نصبا وذلك أنّ ليس تصلح مكان لا فيمن رفع بحتّى وفيمن رفع بأن ألا ترى أنك تقول: إنه ليؤاخيك حتى ليس يكتمك شيئا، وتقول في أن: حسبت أن لست تذهب فتخلّفت. وكلّ موضع حسنت فيه ليس مكان لا فافعل به هذا: الرفع مرّة، والنصب مرّة. ولو رفع الفعل في أن بغير لا لكان صوابا كقولك حسبت أن تقول ذاك لأنّ الهاء تحسن في أن فتقول حسبت أنه يقول ذاك وأنشدنى القاسم بن معن:
إنى زعيم يا نوي ** قة إن نجوت من الزواح

وسلمت من عرض الحتو ** ف من الغدوّ إلى الرواح

أن تهبطين بلاد قو ** م يرتعون من الطلاح

فرفع أن تهبطين ولم يقل: أن تهبطى.
فإذا كانت لا لا تصلح مكانها ليس في حتى ولا في أن فليس إلا النصب، مثل قولك: لا أبرح حتى لا أحكم أمرك. ومثله في أن: أردت أن لا تقول ذاك. لا يجوز هاهنا الرفع.
والوجه الثالث في يفعل من حتى أن يكون ما بعد حتى مستقبلا،- ولا تبال كيف كان الذي قبلها- فتنصب كقول اللّه جل وعز: {لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى} و: {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} وهو كثير في القرآن.
وأمّا الأوجه الثلاثة في الأسماء فأن ترى بعد حتى اسما وليس قبلها شيء يشاكله يصلح عطف ما بعد حتّى عليه، أو أن ترى بعدها اسما وليس قبلها شيء.
فالحرف بعد حتّى مخفوض في الوجهين من ذلك قول اللّه تبارك وتعالى: {تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ} و: {سَلام هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} لا يكونان إلا خفضا لأنه ليس قبلهما اسم يعطف عليه ما بعد حتى، فذهب بحتى إلى معنى: {إلى}. والعرب تقول: أضمنه حتى الأربعاء أو الخميس، خفضا لا غير، وأضمن القوم حتى الأربعاء.
والمعنى: أن أضمن القوم في الأربعاء لأنّ الأربعاء يوم من الأيام، وليس بمشاكل للقوم فيعطف عليهم.
والوجه الثاني أن يكون ما قبل حتى من الأسماء عددا يكثر ثم يأتى بعد ذلك الاسم الواحد أو القليل من الأسماء. فإذا كان كذلك فانظر إلى ما بعد حتى فإن كانت الأسماء التي بعدها قد وقع عليها من الخفض والرفع والنصب ما قد وقع على ما قبل حتى ففيها وجهان: الخفض والإتباع لما قبل حتى من ذلك: قد ضرب القوم حتى كبيرهم، وحتى كبيرهم، وهو مفعول به، في الوجهين قد أصابه الضرب.
وذلك أنّ إلى قد تحسن فيما قد أصابه الفعل، وفيما لم يصبه من ذلك أن تقول:
أعتق عبيدك حتى أكرمهم عليك. تريد: وأعتق أكرمهم عليك، فهذا مما يحسن فيه إلى، وقد أصابه الفعل. وتقول فيما لا يحسن فيه أن يصيب الفعل ما بعد حتى:
الأيام تصام كلها حتى يوم الفطر وأيام التشريق. معناه يمسك عن هذه الأيام فلا تصام. وقد حسنت فيها إلى.
والوجه الثالث أن يكون ما بعد حتى لم يصبه شيء مما أصاب ما قبل حتّى فذلك خفض لا يجوز غيره كقولك: هو يصوم النهار حتى الليل، لا يكون الليل إلا خفضا، وأكلت السمكة حتى رأسها، إذا لم يؤكل الرأس لم يكن إلا خفضا.
وأمّا قول الشاعر:
فيا عجبا حتى كليب تسبّنى ** كأنّ أباها نهشل أو مجاشع

فإنّ الرفع فيه جيّد وإن لم يكن قبله اسم لأنّ الأسماء التي تصلح بعد حتى منفردة إنما تأتى من المواقيت كقولك: أقم حتى الليل. ولا تقول أضرب حتى زيد لأنه ليس بوقت فلذلك لم يحسن إفراد زيد وأشباهه، فرفع بفعله، فكأنه قال:
يا عجبا أتسبّنى اللئام ** حتى يسبنى كليبىّ

فكأنه عطفه على نيّة أسماء قبله. والذين خفضوا توهموا في كليب ما توهموا في المواقيت، وجعلوا الفعل كأنه مستأنف بعد كليب كأنه قال: قد انتهى بي الأمر إلى كليب، فسكت، ثم قال: تسبنى.